إن أغلب المؤرخين الحديثين يضربون بأقوال بلوتارك وسنكا وجلوسعرض الحائط، ولا يعتقدون أن المكتبة الكبرى هي التي ذهبت عندئذ طعمة للنيران، بليعتقدون أن النيران لم تلتهم إلا كتبًا كانت مخزونة مؤقتًا بالقرب من الميناءلنقلها إلى روما، أو على الأكثر مخازن المكتبة الكبرى. إن أهم ما يستند إليه هذاالرأي هو أنه لم يرد لحادث هام مثل حرق المكتبة الكبرى ذكر فيما كتبه قيصر ولا مؤلفتاريخ حرب الإسكندرية ولا استرابون ولا شيشرون ولا ولكيانوس. لكن رأيًا يستند إلىصمت بعض المصادر عن أي حادث لا يمكن أن يرجح على رأي يستند إلى رواية بعض المصادرالمحترمة، ولاسيما إذا كان يمكن تفسير صمت المصادر التي أغفلت ذكر ذلك الحادثتفسيرًا معقولاً. ولا شك في أن قيصر أغل ذكر هذا الحريق، لأنه كان حادثًا مؤسفًاتسبب هو فيه، وإن كان ذلك عن غير قصد منه. ويضاف إلى ذلك أن ما كتبه قيصر لم يكنتاريخًا بل مذكرات لم يراد بها سرد جميع الوقائع بقدر ما أريد بها تبرير تصرفاتقيصر. وقد كان طبيعيًا أن يغفل صاحب "حرب الإسكندرية" هذا الحريق، لأنه وقع قبلالفترة التي تبدأ فيها حوادث كتابه. وإذا سلمنا جدلاً بأن كل مراسلات شيشرون قدوصلت إلينا فإننا نعتقد أنه لم يذكر هذا الحريق لم يخف على أحد ولذلك لم يبق ثمةداع لذكره، وخاصة بعد موقعة فارسالوس عندمام كان شيشرون يحاول كسب ود قيصر، فكانطبيعيًا أن يتناسى شيشرون حادثًا لابد من أن قيصر كان يرجو أن يتناساه الناسجميعًا. ويبدو أن استرابون لم يذكر هذا الحريق في كتابه الذي وصل إلينا، لأنه كتابجغرافي، ولعله قد ذكر هذا الحادث في كتابه التاريخي الذي لم يصل إلينا. أما صمتلوكيانوس عن هذه المسألة. فإنه إذا كان لا يرجع إلى رغبته في إغفال ذكر حادث كان لايشرف مواطنيه فلابد من أنه يرجع إلى أنه توفي قبل إتمام كتابه العاشرونشره.
ومن الحجج التي يتذرع بها أصحاب الرأي المناقض لرواية بلوتاريك أنهمن المستبعد أن المكتبة الكبرى كانت قريبة من الميناء إلى هذا لحد، لكن وصف أترابونيقضي على هذا الزعم، فهو يحدثنا بأن ذلك الجزء من القصور الملكية، الذي لم يقع علىرأس لوخياس. كان ملاصقًا للميناء، وإن دار العلم، وتبعًا لذلك المكتبة الكبرى إذلابد من أنها كانت متصلة بالدار، كانت تكون جزءًا من القصور الملكية.
ولماكان عدد الكتب التي التهمتها النيران في هذا الحريق كبيرًا، فإنه لا يمكن قبولالرأي القائل بأنها كانت مخازن المكتبة الكبرى، إذ يصعب أن نعتقد أن هذه المخازنكانت تضم 400.000 أو حتى 40.000 مجلد. ولم يبق إذن إلا الرأي القائل بأن الكتب التيأحرقت كانت كتبًا مخزونة مؤقتًا في الميناء استعدادًا لنقلها إلى روما. وهذا الرأيمردود، لأنه لا يمكن أن نتصور أن قيصر وهو في ذلك المركز الحرج، بسبب قلة رجالهوتفوق عدوه عليه مما دفعه إلى إحراق الأسطول المصري. كان يسمح لنفسه حتى بالتفكيرفي مثل هذا العمل. وإزاء كل ذلك نميل إلى العتقاد بأ، الحريق قد امتد إلى المكتبةالكبرى وقضى عليها، ولهذا السبب أراد أنطونيوس أن يعوض كليوبترة عن تلك الخسارةالفادحة فأهدى إليها 200.000 مجلد من مكتبة برجام.
وقد أسدى العلماء الذينعينهم البطالمة في المكتبة خدمات جليلة للعلم، فإنهم لم يقصروا عنايتهم على وضعفهارس للكتب بل وضعوا أسس علم التصنيف وتحقيق النصوص والنقد الأدبي، وابتكرواالعلامات الصوتية وكذلك علامات الاستفهام وما إليها من فواصل الكلام وقد عكفزنودوتوس ـ أول أمين للمكتبة ـ ومساعاداه، إسكندر الأيتولي وليكوفرون الأيوبي، علىجمع وتصنيف وتحقيق ونقد الشعر الإغريقي. وأخذ نودوتوس لنفسه نصيب الأسد ـ إشعارهوميروس وهيود وبعض أشعار بيندار وأناكربون ـ بينما عهد إلى الإسكندر بالتراجيدياوإلى ليكوفرون بالكوميديا. وكان علماء الإسكندرية عند دراسة أي مؤلف يهتمون أولاًبتحقيق النص ثم بشرح لغته وبعد ذلك بتفسير الموضوعات التي يتناولها. وبترينا مقارنةنصوص الأشعار الهومرية التي نشرها على التوالي وأعظم نقاد الأدب في عصر البطالمة،وهم زنودوتريس وريانوس وأريستوفانس البيزنطي وأريساترخوس الطريقة التي كان أولئكالعلماء يتبعونها، كما ترينا أن فن النقد الأدبي القديم تقدم بمضي الزمن، فإن أخرهميعتبر أعظم ناقد الأدب في العصور القديمة. وقد استخدم أرستوفانس وخلفاؤه هذهالمهارة في دراسة فنون الشعر الأخرى وكذلك في النثر، لكنهم لم يصيبوا في هذاالمضمار الأخير ما أصابوه من التوفيق في الشعر. ويرتكز النقد الإسكندري بمعنىالكلمة على قواعد ثابتة أكيدة تخالف تمامًا قواعد النقد عند الرواقيين، ذلك النقدالتخيلي الذي ظهر فيما بعد في برجام، ويعزى إلى علماء الإسكندرية فضل تحقيق الأشعارالهومرية والأشعار الغنائية والمسرحيات ونشرها على نحو لا يختلف كثيرًا عما بينأيدينا اليوم.
وقد عثر على جانب من تعليقات ديديموس الإسكندري على مؤلفاتديموسثينس المؤلف هي تعليقات قيمة تدل على سبعة أطلاع هذا العالم الذي كتب عن أغلبالمؤلفين الإغريق حتى يقال أنه الذي نتج من الكتب أكثر مما أنتجه أي مؤلف قبله أوبعهده، إذ يقدر عدد مؤلفاته بثلاثة آلاف وخمسمائة مؤلف. وقد عنى بعض علماءالإسكندرية بدراسة قواعد اللغة لذاتها، وقد كان أول كتاب عن قواعد اللغة الإغريقيةمن وضع ديونيسيوس التراقي تلميذ أريستارخوس.
وقد قام كاليماخوس بتصنيف الكتبثمانية أصناف كانت كما بلى :
1- المسرحيات .
2- الشعر الحماسي والغنائي .
3- التشريع .
4- الفلسفة .
5- التاريخ .
6- الخطب .
7- علم الخطابة .
8- موضوعات مختلفة الأنواع .
ووضع للكتب فهارس رتبها في بعض الأصناف ترتيبًا زمنيًا، وفي البعض الآخر ترتيبًاأبجديًا أما للموضوعات أو للمؤلفين. وكانت الفهارس تتضمن فضلاً عن أسماء المؤلفينوأسماء الكتب الجملة الأولى في كل كتاب وعدد سطوره وترجمة أدبية موجزة، ويرى البعضأن كاليماخوس تولى منصب أمين المكتبة، لكننا نميل إلى تأييد الرأي المعارض لذلك،ولاسيما أن وثيقة بردية كشفت حديثًا تخبرنا بأن الذين عينوا أمناء للمكتبة بعدزنودوتوس كانوا أبولونيوس الرودسي وأراتوسشينس أوريستوفانس البيزنطي، الذي علق علىفهارس كاليماخوس ويعزى إليه فضل ترتيب مؤلفات أفلاطون، ثم أبولونيوس مؤرخ الأدبالإغريقي (Eidographos) واريستارخوس، وكيداس (Cydas) أحد رجال حرس الملك. ولما كنانعرف أن زنودوتوس وأبولونيوس الردوسي وأراتوسيشنس وأريستارخوس كانوا معلمي أبناءمعاصريهم من البطالمة، فإننا قد لا نعدو الحقيقة إذا استخلصنا من ذلك أن أمينالمكتبة كان في الوقت نفسه كذلك مربي أفراد الأسرة المالكة.